Статья
القضايا الدينية من منظار فكر حزب البعث العربي الاشتراكي
Аннотация
Авторы | |
Журнал | |
Раздел | Ex principiis / Из источников |
Страницы | 257 - 274 |
Получено | 29.09.2017 |
Дата публикации | 30.09.2017 |
Статья |
نص مداخلة الرفيق عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي لصالح كتيب بعنوان (الدين والمجتمع في الشرق) يصدر عن أكاديمية العلوم الروسية، ومعهد الاستشراق في روسيا 30 كانون الثاني 2017
مقدمة يشير تاريخ الحضارات في الشرق إلى سجل حافل بالفكر والفلسفة والتجربة ونشأة الدين وتطوره في منطقة ذات أجناس وثقافات مختلطة ظهرت فيها فيما بعد ديانات التوحيد الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلامية، كما يشير إلى العقائد التي اعتقدها الإنسان من سالف الأزمان، ومن المؤكد أن الديانات مرت بمراحل تطور من المجتمعات البسيطة إلى المجتمعات المعقدة، من الشرك إلى التوحيد ومن الارتجالية إلى التنظيم، ولا شك أن هناك تأثيراً عميقاً تركته جميع الأديان في مختلف المجتمعات التي استطاعت عبر مختلف عصور التاريخ تطوير الممارسات الدينية، وكانت الفلسفات الشرقية هي تلك الفلسفات المعنية بالحضارات في الشرق (السومرية، والمصرية، والبابلية، والكنعانية، والآرامية، والفينيقية، والفارسية، والهندية، والصينية، والإسلامية) وهي سبّاقة عن الحضارات الغربية واليونانية، أي أن الشرق سبّاق في التفكير الفلسفي عن الغرب. يقول الفيلسوف الألماني هيغل: "إن الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون له دين"، فالتدين عنصر أساسي في تكوين الإنسان، والحس الديني، إنما يكمن في أعماق كل قلب بشري، بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان، مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء، والإيمان فطري في النفس البشرية، التي كانت سابقة في وجودها على البدن، إذ يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين} (الأعراف: 172). وإذا سلّمنا بأن الحس الديني جزء أساسي في تكوين الإنسان وأنه موجود بدرجات متفاوتة عند الناس جميعاً، فقد يكون مطموراً عند من يحاول أن يحجبه أو يمنعه من الظهور، بل ربما يجحد وجوده، وقد يكون عارماً وطاغياً عند الصوفي العظيم الذي يرى الفعل الإلهي في كل حركة كونية من حبة الرمل في الصحراء إلى نجوم السماء، فلا بدّ أن نسلّم بالتالي أن تفسير هذا الحس الديني قد خضع لنفس التطور الذي خضع له الإنسان، فاختلف وفقاً لمراحل كثيرة لارتباطه ارتباطاً وثيقاً بالإطار الثقافي الذي وُجد فيه. من هنا نشأت كثرة من الديانات منذ أن دبّ على ظهر الأرض إنسان، فكانت الأساطير والخرافات والسحر والشعوذة ومحاولة السيطرة على القوى الخفية والتقرّب إليها بالأضاحي والقرابين، مما يزخر به تاريخ الشعوب في الشرق والغرب، على حدّ سواء، ثم ظهرت الديانات البشرية الوضعية من زرادشتية إلى كونفوشية إلى بوذية... وغيرها، حتى نزلت الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. ولقد دأب المسلمون إبان ازدهار حضارتهم، على دراسة الديانات البشرية المختلفة القريبة منهم والبعيدة على حد سواء، لأنهم أدركوا في هذا العهد المبكّر ذلك الأثر القوي الذي يتركه الدين في نفوس الناس وسلوكهم، وتصدّى لدراسة العقائد وطبائع الشعوب والأمم وشعائرهم الدينية عدد من العلماء العرب المسلمين أمثال أبي الريحان البيروني والشهرستاني وغيرهما كثير.. ويعد كتاب (الملل والنحل) لصاحبه الشهرستاني من أشهر الكتب التي تؤرخ لديانات عصره بمنهج علمي دقيق، حيث كتب عن المجوس واليهود والنصارى والمسلمين، كما كتب عن الصابئة وعبدة الكواكب، وعبدة الأوثان، وعبدة الماء، ومعتقدات الهنود لا سيما البراهمة، فأصبح هذا الكتاب دائرة معارف للديانات في القرن السادس الميلادي. فمن الشرق برزت الحضارة المصرية التي تميزت بميراثها في مجال النحت والرسم واكتشاف اللغة الهيروغليفية وإقامة الدولة وتأسيس حملة من المذاهب والعقائد الفكرية والدينية، وهذه حقائق يمكن أن نستخلص منها مجموعة من الأفكار الفلسفية تتعلق بالعدل والأخلاق وبأن الفكر أساس الوجود. ومن الشرق جاءت الحضارة البابلية التي تعادل في قيمتها التاريخية الحضارة المصرية والهندية والصينية لما تركته من آثار أدبية وعلمية وقانونية فيها مثل: (الرياضيات، الفلك، إنشاء أول مكتبة في التاريخ، شريعة حمورابي التي أسست لإقامة قواعد التنظيم الاجتماعي والسياسي، وتعد من أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري 1790 قبل الميلاد)، ومساهمة تلك الحضارة في بعض الأفكار الفلسفية مثل: (أصل الكون، موضوع الخلود، تعدد الآلهة، وفكرة التوحيد وفكرة الإله الواحد التي قال بها النبي إبراهيم عليه السلام المولود في مدينة أور الكلدانية وهاجر إلى أرض كنعان، حيث تعد هذه الرحلة من أعظم الرحلات التي قام بها الإنسان، ويعد هذا التصور للتوحيد أساس قيام الديانات السماوية الكبرى: (اليهودية، والمسيحية، والإسلام). ومن الشرق كانت حضارة بلاد فارس والفكر الزرادشتي الذي عُني بالأخلاق والنظام والقانون ونبذ الفوضى. ومن الشرق بزغت الحضارة الهندية التي تميزت بالتنوّع والتعدّد في اللغة والأديان والطوائف والعقائد، واهتم مفكروها وفلاسفتها بالدين وتعاليمه، والانضباط والتجربة والممارسة، والمناهج العلمية والتأمل والتفكير، والعدل والإنصاف، وبتبشيرات ومبادئ وقواعد أو تعاليم بوذا (المعلّم، أو المخلّص). ومن الشرق جاءت الحضارة الصينية وفلسفتها التي يعد كونفوشيوس ومصادر فكره من التراث الصيني: "الشعر والتاريخ والمتغيرات والطقس"، واحداً من معالمها، وتميزت باستمرارها ودوامها وثقافتها الخاصة اللغوية والدينية، واهتمت بدوام الدولة دون انقطاع، وبالتدرب على الفنون مثل "الشعر والموسيقا والرماية والكتابة والحساب". ومن الشرق جاءت حضارات "إيبلا" (القرن 21 ق.م)، و"أوغاريت" (7500 ق.م)، واكتشاف أبجدية "رأس شمرة" أول أبجدية في التاريخ (2900 ق.م)، و"ماري"، وتدمر السورية، وما قدمته هذه الحضارات من علوم وتقدم في الصناعة والتجارة والزراعة، والتنوّع في معتقداتها التي تعد امتداداً للديانة الكنعانية في سورية، فكانت سورية قلب الحضارة العالمية القديمة، حيث قامت فيها حضارات كثيرة: الكنعانيون، الأموريون، الفينيقيون، الأراميون، وحكم الكنعانيون معظم المناطق السورية، أما الفينيقيون فقد استوطنوا على امتداد الساحل السوري، وأسسوا امبراطورية بحرية في غرب سورية وامتد ممالك الآراميين في معظم أنحاء البلاد السورية، لتصبح موئل الأفكار والديانات والثقافات المتنوعة التي نهلت وتنهل منها الإنسانية نظمها السياسية الاجتماعية والقانونية والثقافية، وهناك الكثير من الشواهد التي تتجلّى فيها حركية وتطور الحياة الدينية والعلاقات التي كانت قائمة بين المجموعات الدينية، إذ تشير الاكتشافات الأثرية من النصوص الإغريقية واللاتينية التي وجدت في سورية وبلاد الشام إلى تنوّع البنى الدينية وفقاً لتعدد الطوائف الدينية وممارستها في فترة سيطرة العقائد الوثنية وصولاً إلى ولادة السيد المسيح، ويظهر ذلك التنوع في البنى المعمارية التي شيّدتها المجموعات الدينية العديدة المتنوعة التي سادت الشرق القديم في الفترة الهيلنستية وصولاً إلى العهد الروماني. لقد أهّلها موقعها الجيواستراتيجي المتميز، في الماضي لتكون نقطة استقطاب رئيسة في العالم القديم، وشكلت عاصمتها دمشق موئل العلم والمعرفة، فأشعّت بنورها من الأندلس إلى أواسط الصين، وتشكّل معطياتها الجغرافية تنوعاً ثريّاً يعطي لهذا التاريخ زاد الاستمرار والتواصل دون انقطاع، وتمدّ المستقبل بتطلع أهليها إلى إحقاق الحق، وعودة روح التاريخ والجغرافيا إلى نصابها. ويعد تاريخ بلاد الشام صفحة من تاريخ البشرية منذ أقدم عصورها، فقد كشفت الدراسات الأثرية وتنقيباتها في أنحاء بلاد الشام، أنها من أقدم بلاد العالم التي شهدت حياة الإنسان، ففيها كهوف إنسان العصور الحجرية، وتوالت عصور من الحضارات العربية القديمة التي ازدهرت على أرضها وتركت بصماتها في الحضارة الإنسانية، وعلى أرضها امتزجت حضارة الشرق بحضارة اليونان، فازدهرت حضارة هيلنيستية، كان لها فلاسفة وعلماء ما تزال آثارهم بين أيدي الباحثين والدارسين إلى اليوم، ومن أرضها انطلقت الفتوحات العربية الإسلامية، فحملت إلى المشرق والمغرب رسالة إنسانية حضارية، انتشرت علومها ومكتباتها من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وكانت معارفها سبباً من أسباب خروج أوربة من ظلامها وتخلّفها في عصورها الوسطى إلى ما عرفته تلك القارة من تحرّر فكري وتقدّم علمي في عصر النهضة، لذلك كله عرفت بلاد الشام كغيرها من البلاد العربية والإسلامية، تعايشاً بين أبناء الديانات السماوية الثلاث في جو من التسامح وحرية الاعتقاد ندر مثيلها لدى الأمم الأخرى. وفي الشرق، وفي الأرض العربية، هبطت الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، وامتازت العلاقة التي طبعت الإسلام والمسيحية، بالسعي إلى التقارب والتعايش بينهما، حيث حرص القرآن الكريم على أن تلامس هذه العلاقة المشاعر والأحاسيس، إضافة إلى العقيدة، حين قال تعالى في كتابه العزيز: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82)، هذه هي علاقة المودّة القائمة على الإيمان بالله والعبودية له، وعلى المساواة. كما كان الدين الإسلامي دين يسر، ولم يكن دين عسر، يقول تعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة: 286)، تلك هي حقيقة الدين الإسلامي التيسير في الدين، ولم يوجب على المسلم إلا ما هو قادر على أدائه.. كما أوصى الله الناس بالتعارف على الرغم من اختلافهم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13). إنَّ هذه العلاقة التي عكسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مواقفه، ساهمت في توثيق أواصر التعاون، والاحترام المتبادل، بين المسيحيين والمسلمين، وهو ما أثمر في الحفاظ على الوجود المسيحي في بلاد المشرق العربي. كما تتجلّى الحضارة الإسلامية في قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في النجاشي ملك الحبشة التي كانت تدين بالنصرانية وتحارب الوثنية، في فترة الهجرة النبوية الشريفة في السنتين الخامسة والسابعة للبعثة النبوية الشريفة: "إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق يجعل الله لكم فيها فرجاً مما أنتم فيه"، وهو ما يشير إلى خُلق ذلك الملك الموحّد النصراني واستقامة شخصيته وعدالته، مما أعطى الثقة للصحابة بنجاح مهمتهم حينها. وما قاله النجاشي معبراً عن العقيدة المسيحية بعد أن سمع آيات من القرآن الكريم من المهاجرين بحضور وفد قريش الذي التقى النجاشي ليقنعه بإعادة المهاجرين إلى قومهم: "إن هذا والذي جاء به عيسى لَيخرجُ من مشكاة واحدة". فالرسالات السماوية الثلاث، جاءت من مشكاة واحدة، من الخالق رب العالمين، وهي رسائل حضارية، راقية، بعيدة عن التعصّب والطائفية، والتكفير وحركاته التي تسعى إلى تشويه صورة الإسلام، والمسيحية واليهودية وإقصاء الآخر، وهي رسائل حرصت دوماً على تعميق العلاقة بين الناس بمختلف دياناتهم السماوية، وهي العلاقة التي أرادها الله ورسله. لقد كان النبيون والرسل يؤلفون ولا يفرّقون، يجمعون الناس، يقرّبون ولا ينفّرون، ينشرون العدل والرحمة في المجتمع بعد أن عانى الظلم والاستبداد والجهل، وينشرون العلم ويرسّخون الإيمان في نفوس البشر، وكان الإسلام والنبي محمد خاتم النبيين الذي خاطب الله أمته بقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران: 110). فلم تكن السلطة هدف النبي محمد صلى الله عليه وسلم في نشره رسالة الإسلام الحضارية، بل كان هدفه توحيد القبائل العربية، لذلك انتشر انتشاراً مذهلاً من الجزيرة العربية وتوسّع إلى أقصى الغرب في إسبانية، والشرق وصولاً إلى حدود الصين، ولم يكن هناك دليل واحد على التحويل القسري للمسيحيين واليهود.
الموقف من التطرف الديني نحن نرى أن التطرّف لا دين له ولا هوية، فهو يأتي عكس ما نصّت عليه الديانات السماوية الثلاث وشرائعها الدينية، وهو لا يختص بقومية دون سواها، أو بدين دون سواه، أو بمذهب أو بفكرة معينة، رغم اختلاف درجة حدته وسبل التعبير عنه، وإنما هو قضية معروفة في مختلف الأزمان والحضارات، وتأثيره كبير في الحياة السياسية والدينية والمذهبية. والتطرّف هو مغالاة سياسية أو دينية أو مذهبية أو فكرية، لذلك فإن ظهور التعصّب والتطرّف في عدد من المجتمعات، والذي اتخذ في أحد جوانبه، طابعاً أيديولوجياً من جهة أو طابعاً طائفياً أو إثنياً من جهة أخرى، مما يهدّد الاستقرار المجتمعي ويخلق حالة من الصراع بين مكوناته، وتستغل الحركات الدينية المتطرفة التدين النقي استغلالاً سياسياً، وتوظفه لخدمة أغراضها السياسية بعد محاولة إضفاء شرعية على خطابها السياسي الذي يكفّر الآخرين أو يخوّنهم، أو يقصيهم، وتنبني على كراهية الآخر والسعي للقضاء عليه باسم الله وكلماته، فهي لا ترضى بالفكر الديمقراطي، وهذا ربما كان السمة البارزة عند كل المتطرفين الذين عرفهم تاريخ البشرية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. فالتطرف آفة قاتلة، والدين ليس سبباً في التطرّف والغلوّ، بل على العكس، هو أداة فاعلة في محاربته ورفضه، والمنطلق الحق للإسلام هو القرآن والسنة، وهما المصدران اللذان يعدان بالأساس منبعي الوسطية والاعتدال؛ في حين يظل التطرف أداة للغلو والإفراط وسفك الدماء؛ لا لشيء إلا لأنه ينطلق من منطلق أقوال الشيوخ وآراء العلماء والفقهاء في فترات التدهور والانحطاط، الذين جعلوا من الدين مطيّة لتبرير ظلم الحاكم والتأكيد على مبدأ التطرف والغلو ضد المحكومين. إن مشكلة التطرف الديني لا تكمن في بنية النص المقدس، بل في كيفية التعامل مع النص فهماً شمولياً وكلياً، والمجتمعات العربية والإسلامية بحاجة إلى نشر المعرفة الصحيحة والفكر الحصيف مع التركيز على ترشيد الفئات الشابة في المجتمع، وتأهيلها للقيام بدور فاعل ومنتج. لا يختص التطرف بقومية دون سواها، أو بدين دون سواه، أو بمذهب أو بفكرة معينة، هو موجود في معظم الديانات بما فيها الديانات السماوية الرئيسة الثلاث، وان اختلفت درجة حدته وطريقة تسويقه وطريقة التعبير عنه، والتطرف قضية معروفة في مختلف الأزمان والحضارات وذو تأثير كبير في الحياة السياسية والدينية والمذهبية. فأحداث القتل والعنف والتطرّف التي طالت أنبياء الله ورسله، نفذها اليهود المتطرفون، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} (آل عمران: 21). فقد عمد المتطرفون من اليهود بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم منذ بداية رسالته السمحاء، وكانوا يكيدون له ويعذبونه ويطاردونه ويشردونه ويجرحونه ويؤلبون عليه وعلى أصحابه الرأي العام بحجة أنهم أولياء، حتى قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "مـــا أوذي نبي بمثل ما أوذيت"، كما قال تعالى: {قُلْ يأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَاـدِقِينَ، وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّاـلِمِينَ} (الجمعة: 5 و6)، وبرز التطرّف اليهودي مجدّداً بصورة جلية خلال انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا عام 1897 بزعامة تيودور هرتزل، عندما دعا إلى إقامة "دولة يهودية"، أي دولة على أساس ديني، ووضع المؤتمر أسس الحركة الصهيونية وحدّد أهدافها العدوانية، وكانت أولى خطواتها التنفيذية لمشروعها الصهيوني إقامة الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين بعد قتل الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم، على أساس ديني، لإقامة ما يسمى "الدولة اليهودية"، كما أطلقوا على أنفسهم "شعب الله المختار"، وطالبوا بما يسمى "أرض الميعاد"، وهي أمور تعود إلى عقيدة توراتية وأساطير تلمودية ادعتها الجماعات اليهودية المتطرفة. أما المتطرفون المسيحيون فلا يقلون خطراً عن متطرفي اليهود عبر حروبهم الصليبية في نهاية القرن الحادي عشر بتوجيه من البابا "اوريانوس الثاني" واستمرت لقرن من الزمان وأدّت إلى قتل آلاف البشر، إضافة إلى تشكيل جماعات مسيحية متطرفة، وجيش الله المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي ارتكب جرائم قتل وتفجير وخطف، وأصبح له امتدادات في القارة الأفريقية وما يحيط بها. أما التطرّف في الدين الإسلامي، فعلى الرغم من تميزّ الدين الإسلامي الحنيف بالسماحة واليسر والوسطية، إلا أن أقواماً خالفوا ذلك وخرجوا عن سمة أمة الوسط والاعتدال، وانحرفوا عن المنهج الصحيح ونزعوا إلى الغلو والتشدّد والتطرّف، خاصة بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونهاية عصر الخلفاء الراشدين، ففي عهد الدولة الأموية (661–750م) اكتملت للعرب مقومات الامبراطورية، وعرفوا عدداً من الخلفاء الذين دخلوا التاريخ كساسة ورجال دولة من الطراز الأول في ذلك الوقت، لكن اعتماد الأمويين على سلاح العصبية القبلية امتد ليميز ما بين المواطنين من أصل عربي والآخرين المنحدرين من أصلاب غير عربية (الموالي)، رغم أنهم انفتحوا على القوميات والديانات التي كانت موجودة في الدولة، فخلق ذلك المناخ ردود فعل تمثلت في الحركات الشعوبية والمذهبية المناهضة للحكّام الأمويين ودولتهم، كما استمر اضطهادهم ضد بني هاشم وآل البيت، مما مكّن الخارجين عليهم من التستر برايات آل البيت، فتعرضت الدولة لثورات شبه مستمرة من قبل (الخوارج، الشيعة المعتزلة)، ولم ينقذها من الانهيار إلا عبد الملك بن مروان الذي أطال بعمر الدولة إلى أن آلت إلى العباسيين (750–1517)، لكنها امتدت إلى الأندلس التي شهدت عصر الازدهار الحضاري الذي تتلمذت عليه أوربا. وفي عهد الدولة العباسية التي اعتمدت في تأسيسها على الفرس الناقمين على الأمويين لاستبعادهم إياهم من مناصب الدولة والمراكز الكبرى، واحتفاظ العرب بها، فكانت ردّات فعل العباسيين عنيفة بحق السلالة الحاكمة من العصر الأموي الذين طاردوهم وقضوا على أغلبهم، ولم ينج منهم إلا من لجأ إلى الأندلس، كما انهارت الدولة العباسية بسبب بروز حركات شعوبية ودينية مختلفة في ذلك العصر، مما أدّى إلى تفضيل الشعوب غير العربية على العرب، وقام جدل طويل بين طرفيّ النزاع، وانتصر لكل فريق أبناؤه. وإلى جانب الشعوبية السياسية، تكوّنت فرق دينية متعدّدة عارضت الحكم العبّاسي، وكان محور الخلاف بين هذه الفرق وبين الحكام العبّاسيين هو "الخلافة" أو إمامة المسلمين، وكان لكل جماعة منهم مبادئها الخاصة ونظامها الخاص وشعاراتها وطريقتها في الدعوة إلى هذه المبادئ الهادفة لتحقيق أهدافها في إقامة الحكم الذي تريد، وجعلت هذه الفرق الناس طوائف وأحزاباً، وأصبحت المجتمعات في فترة الحكم العباسي ميادين تتصارع فيها الآراء وتتناقض، فوسّع ذلك من الخلاف السياسي بين مواطني الدولة العبّاسية وساعد على تصدّع الوحدة العقائدية التي هي أساس الوحدة السياسية، وانتشرت الحركات الانفصالية (الأدارسة، الأغالبة، الفاطمية)، كما نشأت طوائف ومذاهب عديدة داخل المؤسسة الإسلامية نفسها، بعضها اندثر والبعض الآخر لا يزال حتى اليوم، (المعتزلة، الإباضية، الصوفية، وغيرها)، كما نشأت عن الطائفة الشيعية عدة طوائف نتيجة اختلافات فقهية أو اختلاف حول وراثة منصب الإمام الشيعي، ولم تكن العلاقة جيدة بين مختلف الطوائف، رغم أن الباحثين يسوقون قيامها إلى الغنى الثقافي والتنوع الحضاري، إذ قامت العديد من الفتن والاقتتالات الطائفية بين مختلف الطوائف وبشكل متواتر طوال تاريخ الدولة ما أثر على وحدتها وولاء مواطنيها. وتبخّر خلال عصور الانحطاط، التعايش الذي كان سائداً بين مختلف مكونات المجتمع في ظل الدولة العباسية، فهدمت الكنائس ومنع أبناء الأديان (المسيحية واليهودية) من ركوب الخيل ومزاولة بعض الأنشطة التجارية والاقتصادية أو الإقامة في دور مرتفعة، كما أنهم قد عوملوا كرعايا من الدرجة الثانية وأخذ السلاطين والولاة يستبدون بهم وكان البدو يقتحمون الكنائس والأديرة لسلبها على ما يذكر المؤرخ ابن بطريق والمسعودي وغيرهما. وانتهى الحكم العباسي في بغداد عندما أقدم هولاكو التتاري على نهب وحرق المدينة وقتل أغلب سكانها بما فيهم الخليفة وأبناؤه، وانتقل من بقي على قيد الحياة من بني العباس إلى القاهرة بعد تدمير بغداد، حيث أقاموا الخلافة مجددًا في سنة 1261م، وبحلول هذا الوقت كان الخليفة قد أصبح مجرد رمز لوحدة الدولة الإسلامية دينياً، أما في الواقع فإن سلاطين المماليك المصريين كانوا هم الحكّام الفعليين للدولة، واستمرت الخلافة العباسية قائمة حتى سنة 1519م، عندما اجتاحت الجيوش العثمانية بلاد الشام ومصر واحتلت مدنها وقلاعها، فتنازل آخر الخلفاء عن لقبه لسلطان آل عثمان، سليم الأول، فأصبح العثمانيون خلفاء المسلمين، ونقلوا مركز العاصمة من القاهرة إلى القسطنطينية. وفي عهد الدولة العثمانية التي بلغت ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولعبت دور صلة الوصل بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي، ثم أصيبت بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاتها شيئاً فشيئاً، على الرغم من أنها عرفت فترات من الانتعاش والإصلاح، إلا أنها لم تكن كافية لإعادتها إلى وضعها السابق، فانتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية عام 1922، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 تموز 1923، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيًا في 29/10/1923 عند قيام الجمهورية التركية، التي تعد حالياً الوريث الشرعي للدولة العثمانية. لم تكن ثمّة حضارة عثمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الحضارة العثمانية مجرّد مزيج من حضارات الأمم التي سبقتها وحضارات الأمم التي عاصرتهم، فبرز فيها أثر العرب والفرس من ناحية، وأثر البيزنطيين والأوروبيين من ناحية ثانية، فكانت امتداداً للحضارة والخلافة العربية الإسلامية التي بلغت أوجها في العصر العبّاسي، ولكنه امتداد طبعه العثمانيون بطابعهم التركي وطعّموه بكثير من المؤثرات البيزنطية أولاً، ثم بكثير من المؤثرات الأوروبية بعد ذلك، إلا أن العثمانيين اتسموا بعدم اتباعهم لسياسة هضم القوميات، الأمر الذي ساعد على نمو العصبيات الحاكمة وحفظ للقوميات طابعها القومي، فقد وضع السلاطين نظاماً خاصاً عُرف بنظام "الملل"، قسموا بمقتضاه الشعوب الخاضعة لهم، ووضعوا كل ملّة أو عصبية تحت حكم زعيم لها هو المسؤول عنها أمام السلطان. يقول بعض المؤرخين إن هذه السياسة هي أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت لضعف الدولة وانفصال بعض القوميات عنها في وقت لاحق، بينما يقول آخرون أن التعدّدية هي ما كان وراء دوام استمرار الدولة لسنين طويلة. سمح العثمانيون لليهود والمسيحيين أن يمارسوا شعائرهم الدينية بحرية تحت حماية الدولة، وفقاً لما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وبهذا فإن أهل الكتاب من غير المسلمين كانوا يعتبرون رعايا عثمانيين لكن دون أن يُطبق عليهم قانون الدولة، أي أحكام الشريعة الإسلامية، وفرض العثمانيون، كجميع الدول الإسلامية من قبلهم، الجزية على الرعايا غير المسلمين مقابل إعفائهم من الخدمة في الجيش. ثم ساءت علاقة العثمانيين بالعديد من الطوائف غير الإسلامية في أواخر عهد الدولة لأسباب مختلفة، منها بروز الحركات القومية التي تبنّتها شعوب غالباً ما كانت تتعاطف معها بعض الطوائف كونها تنتمي لذات القومية أو المذهب الديني، وعند نشوب الحرب العالمية الأولى ضيّق العثمانيون الخناق على الرعايا المسيحيين منعاً لحصول أي اتصال بينهم وبين أعداء الدولة من البريطانيين والروس والفرنسيين، وخلال هذه الفترة ارتكبت الدولة بضعة أعمال واتخذت بعض الإجراءات التي نجم عنها قتل وتشريد الكثير من المسيحيين واليهود، وقد اعتبر البعض هذه الأعمال مجازر ومذابح هادفة لاضطهاد الأقليات الدينية (المجازر ضد الأرمن مثلاً). وفي ظل الاستعمار الغربي واتّباعه سياسة (فرّق تسد) بتقريب طوائف وإبعاد أخرى، ها هو التطرّف يُنتج مجدّداً ــ عبر تلاقي أهداف الصهيونية والقوى الغربية المعادية ــ أعداءً جدداً مناهضين لأمة العرب والإسلام، لمحو تاريخ العرب والمسلمين من الأرض العربية، وبدأ التطرّف سياسياً بإنشاء تنظيمات مثل (الإخوان المسلمين) الذي خرج من رحمه تنظيمات متعدّدة انتهجت التطرّف، مثل "النصرة"، و"داعش" وغيرها.. والذين يعدّون بحق (الصهاينة الجدد) لطالما أنهم يسعون إلى تدمير الحضارة والمجتمع الإنساني وتخريب حياة الدول والمجتمعات، وتشويه صورة الإسلام قبل كل شيء، حيث أخذ الإرهاب التكفيري يجتاح الأقطار العربية واحداً تلو الآخر، تحت ستار ما يسمى "الربيع العربي" الذي جاء مع بدايات العقد الثاني من هذا القرن الحالي، ليكون الخطر الأعظم على الأمة العربية والإسلامية، لا بل على العالم أجمع، بسبب ما خلّفه ويخلّفه من حصد للأرواح، وتدمير للممتلكات، وبث لحالات الرعب والخوف في أوساط الناس، وزرع الفتنة، وإضعاف الأمة وتفتيتها، وتبديد مكاسبها، وتسلّط الأعداء المتربصين شراً بالأمن القومي العربي والأمن العالمي، وزعزعة استقرار بلدان العالم، عدا عن تشويه صورة العرب والمسلمين لدى الرأي العام العالمي، واستهداف شخصية الأمة العربية وهويتها القومية.
أما كيف تعامل البعث مع الدين؟ فيمكن إجمال ذلك بالنقاط الآتية: 1 ـ الأفكار البعثية والعروبية بين التأثير والتراجع: يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن انحسار الفكر القومي العربي والأفكار العروبية وتراجع تأثيرهما، على الرغم من أن ما يجمع الأمة العربية أكثر مما يفرقها، حيث يجمعها الكثير من مقومات التوحّد والتكتّل والروابط القومية والتاريخية مثل: اللغة والتاريخ المشترك والإرادة المشتركة والمصالح المشتركة، لكن الشعور بالمرارة لدى المواطن العربي إزاء حالات التجزئة والانقسام والخلافات وغياب التضامن التي تعانيها أمته العربية ناجم عن فقدان ثقته بالأنظمة العربية التي خيبت آماله في تهميشها للقضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وعن خيبته مما آل إليه حال العرب من صراعات وتناقضات، بعد أن كانت أمة العرب أمة واحدة، بمسار حضاري راق وجليل، أوصلها إلى مراتب عليا في الوجود الإنساني. إن الوعي القومي لدى المجتمع العربي وبين أبناء الأمة العربية الواحدة تفرضه حركة التاريخ والأجيال، وهو وعي راسخ في العقل والوجدان العربيين، ولا يمكن أن يتبدّد تحت تأثير الأزمات السياسية أو العسكرية العابرة، مهما اشتدّت خطورتها، وسيبقى المد القومي متأجّجاً حتى تحقيق الشعب العربي لطموحاته في الوحدة العربية التي تعدُّ خياراً مخلّصاً للأمة مما تعانيه من أزمات وتمزّق. إن من يردّد مقولة: "سقوط أو تراجع الأفكار البعثية والعروبية"، سواء كانوا باحثين أو سياسيين، فإن أكثرهم من الغرب أو متأثرين به، أو من التيارات الإسلامية ذات الطابع الأممي (الإخوان المسلمون، متعصبو القاعدة، والمتطرفون الإسلاميون) الذين يكفّرون كل من لا يؤمن ويلتزم بأفكارهم المدمّرة، وسلوكهم التفريقي في كل مجتمع. فالشيوعية في الماضي أيام حكم الاتحاد السوفييتي السابق نقدت التوجهات القومية كأساس لبناء الدول، إلا أنها تعاملت معها ولم تناصبها العداء، وربما كان النقد يعود لبعد العديد من المنظمات صاحبة التوجهات القومية عن النظرة الاشتراكية العلمية. لكن هذه النظرة بدأت تتغير نحو الاعتدال في القرنين الأخيرين من وجود الاتحاد السوفييتي بعد أن تعامل مع دول عربية ذات أنظمة تقدمية مثل (سورية، العراق، ليبيا، الجزائر، مصر)، والتي تبنّت التوجه القومي والاشتراكية بمفهوم خاص بها، يتلاءم وأوضاع دولها والمجتمع العربي بشكل عام، ومثلما تعرّضت التوجهات القومية في الماضي للنقد من قبل الشيوعية ــ كما أسلفنا ــ واجهت القومية العربية نقداً من قوميات أضيق (القومي السوري)، وإذا افترضنا جدلاً صحة مقولة أن "جيل الشباب العربي السوري الجديد" يبتعد عن العروبة والبعث، فإننا نعتقد أن هذه المقولات وغيرها من العبارات التي يتم تسويقها وتكرارها من قبيل استهداف المشروع القومي، والتضليل الإعلامي الخاضع لتأثير الغرب والصهاينة وجهات أخرى لا تريد لهذه الأمة أن تنهض، والحرب الثقافية التي تهدف إلى استلاب العقل، وتشويه صورة الديانات السماوية الثلاث، وحضارات هذه البقعة من العالم، الشرق الغني بحضاراته وتعدّده وفلاسفته وأفكاره وأمجاده وأخلاقه وتراثه ومعتقداته وتقدّمه على أكثر من صعيد منذ القدم، لتدمير كل ما هو حضاري، وزرع رؤى وأفكار تخريبية، وفرض أنماط حياتية معينة لا تنتمي إلى المجتمعات في الشرق، وفي الوطن العربي عموماً، بهدف التأثير على المشاعر القومية لدى المواطن العربي، خاصة بعد فشل مشروعات التوحّد التي تبنّاها دعاة الاتجاه القومي عند وصولهم إلى الحكم في بعض البلدان العربية، على الرغم من تحقيقهم خطوات في هذا الاتجاه (الوحدة السورية المصرية، اتحاد الدول العربية بين سورية ومصر وليبيا)، وهي خطوات لم تصمد طويلاً، ليس لعدم صحتها، وإنما لأسباب تتعلق بالممارسة من جهة، وبتآمر القوى المعادية ومحاربتها لهذه الخطوات في الداخل والخارج من جهة ثانية. كما أن هناك حرباً في العالم بين ثقافة أصولية متشدّدة، وبين ثقافة اعتدال وانفتاح، حرباً تعتمد الكذب والتضليل ويقودها الأمريكيون بهدف احتلال دول وعواصم عربية وإسلامية أخرى بعد احتلال فلسطين والقدس، كما حصل في العراق وبغداد عام 2003، وإشعال نار الفتنة والتفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، ليسهل تفتيتها والسيطرة على ثرواتها. مما تقدم، يمكن القول: إن مقولة "تحوّل الشباب العربي السوري عن أفكار العروبة والبعث"، هي مقولة مبالغ فيها، ولا تعبّر عن الواقع، فالشباب العربي السوري يؤمن إيماناً قوياً بالعروبة، فهي هويته وانتماؤه، وطريقه للمستقبل الأفضل الذي يعيشه في مجتمعه العربي. هناك كثير من الشباب العروبيين يعبّرون عن أفكارهم بالكتابة والحوار مع الآخرين دون أن يكونوا في مواقع تأثير إعلامي، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن ظاهرة الجمود التي وقع فيها دعاة التيار القومي في بعض الظروف، تتعرض للنقد في إطار حالات نقد الفكر القومي، إلا أن البعث كان أكثر محركي الفكر القومي وقد عمل البعثيون على تطوير هذا الفكر من خلال تعاملهم مع تطور الحياة وما أنتجه هذا التطور على الحياة العربية، وعملوا على إبعاد حزبهم عن الانغلاق على الذات، الذي برز في مرحلة معينة أو التعالي في بعض الظروف واعتبار البعث هو الوحيد والأقدر على حل مشكلات المجتمع، ولكن البعث وجد من خلال الممارسة أن أي حركة مهما بلغت قوتها وتأثيرها في المجتمع غير قادرة على حل قضايا المجتمع وحدها، دون مشاركة الآخرين، ولذلك اتخذ البعث من مبدأ الحوار والتعاون مع قوى المجتمع طريقاً وأسلوباً لتطور المجتمع نحو بلوغ أهدافه. وطوّر حزب البعث كثيراً من مفاهيمه التطبيقية للمبادئ التي تأسس عليها، فانفتح على الآخر (لاسيما بعد عام 1970) واتخذ مبدأ الحوار، ومشاركة الآخر سبيلاً لصنع المستقبل الأفضل، وبنى علاقات واسعة مع الأحزاب في سورية وفي الوطن العربي سواء ممن تبنّى الفكر القومي أو الاشتراكي أو الوطني، وكوّن جبهة وطنية تقدمية في آذار 1972. إن أي حزب مهما كانت قوته لا يستطيع وحده توحيد أهداف الشعب والمجتمع الموجود فيه، فهذا مقرون بالإمكانيات من جهة، وبتذليل العقبات التي تعترض طريقه لتنفيذ الخطط التي يرسمها، ومعالجة وقوع انحرافات أحياناً، أو الانزلاق إلى مصالح خاصة لبعض الأفراد أو حتى القياديين، فتبدو مثل هذه الممارسات إن وجدت إضعافاً للحزب، وتقدم هدية على طبق من ذهب للمعارضين الذين يتخذونها ذريعة للنيل من الحزب وبرامجه، وتبدو الثقافة والتوعية ضرورية في حالة تولي الحزب الحكم أكثر من أي وقت مضى، ولا ننكر أن متابعة هذا الأمر ساعدت في بعض الظروف، وخاصة أن مثل هذه الأخطاء تقع في غالب الأحيان أثناء مشاركة الحزب في الحكم، أو تولّي مسؤوليته بشكل كامل.
2 ــ البعث.. والموقف من الدين: يتعامل البعث مع مسألة الدين وفق مسارين، فهو من جهة لا يعادي الفكر الديني الأصيل، وغير المشوّه، الذي جاءت به الكتب السماوية والرسل الذين حملوها، بل استلهم منها القيم الخالدة المبنية على تحقيق العدالة والمساواة وحرية الإنسان، والعيش المشترك في المجتمع بسلام وأمان، بعيداً عن العنف والفرقة، ورفض الظلم والعبودية، ورفض تقسيم المجتمع إلى مسلم وغير مسلم. من جهة ثانية ــ ومن حيث المبدأ ــ رفض البعث تسييس الإسلام، لأن فيه تفريقاً للدين نفسه ــ لوجود مذاهب متعدّدة لدى المسلمين ــ وللمجتمعات وتمزيقها في الوقت نفسه، آخذاً بعين الاعتبار أن المجتمع العربي يضم كل الديانات والطوائف والمذاهب، وليس المسلمين وحدهم، حتى ولو كان المسلمون أكثرية في بعض المجتمعات، فهذا لا يعني تسييس الإسلام وإخضاع المجتمع بكل تنوعه وفسيفسائه الديني إلى حكم باسم الإسلام، حكم بعيد فعلياً عن جوهر الإسلام، بل هو تطرّف يخرج الإسلام عن جوهره وقيمه، طالما أنه يفرّق بين المسلمين أنفسهم على أساس مذهبي، ويبدو ذلك واضحاً حالياً من خلال ما يجري في سورية، حيث انتشرت فصائل إسلامية اعترى فكرها الجمود والتطرف، وبدأت تشرّع نظاماً تقول عنه إنه "إسلامي"، لكنه في الحقيقة، بعيد كل البعد عن الإسلام وقيمه، مما جعل الأمور تسير نحو الفوضى والاقتتال والعنف. وانطلاقاً من معارضته تسييس الإسلام، وإيماناً منه بالعيش المشترك، ظل البعث يتعامل مع المجموعات الإسلامية الموجودة في مجتمعه بالحوار، ولم يتخذ منها موقفاً مناهضاً، إلا بعدما مارست أعمالاً مسلحة لفرض أهدافها، والوصول إلى الحكم بالقوة، حينها واجهها الحزب لإبعادها والحيلولة دون تدمير المجتمع ومؤسساته (كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي وكما يحصل الآن). نحن نعتقد أن شعلة الفكرة القومية والقومية العربية لم تخبُ أو تنطفئ، بل تزداد اتقاداً، وستنهض من جديد، لأن في سلوك دربها الخلاص من واقع التجزئة والتخلف ومختلف الأمراض التي يعاني منها المجتمع، وهذا الأمر يحتاج إلى برامج تنويرية وتطويرية للفكر القومي، لأنه فكر لا يقوم على التعصّب كما ظهر في القوميات الأوروبية، وأدّى تعصّبها تجاه بعضها إلى حروب محدودة أو شاملة (عالمية). فالفكر القومي العربي في جوهره إنساني، وبعيد عن التعصّب، وإن كان في مرحلة معينة من خلال وجوده بالحكم ابتعد بعض الشيء عن التعامل مع أتباع قوميات أخرى (مثل الأكراد) الذين طالبوا بنيل حقوقهم الثقافية، وبسبب ذلك أرادت هذه القوميات الانفصال أو التهيئة له تحت تأثير مؤثرات خارجية، ولكن هذا الأمر عاد إلى جادة الصواب، وأبدى البعث استعداده لحوار إيجابي مع القوميات الموجودة في مجتمعه، والاعتراف بالحقوق الثقافية لأتباعها والمشاركة الفعالة معها في بناء مستقبل الوطن، مع الالتزام بوحدة البلاد والتعاطي القومي في العيش المشترك في الوطن الواحد. تحترم القومية العربية الأديان، وتنظر لأتباع الديانات كلها بأنهم مواطنون متساوون، لهم الحقوق والواجبات نفسها، وتنبذ تقسيم المجتمع إلى طوائف ومذاهب، لأنها تصبُّ في خدمة المشروعات المعادية التي تسعى إلى تمزيق المجتمع وإضعافه، أما المنتمون إلى القومية العربية من كل الفئات والفعاليات والطوائف في المجتمع فمنهم موجودون بقيادات البعث وبين مؤسسيه ــ مسيحيون ومن مذاهب إسلامية متعدّدة ــ (ميشيل عفلق، منصور الأطرش، وهيب غانم، زكي الأرسوزي، سامي الجندي)، وترك للأديان ممارسة حريتها الدينية بشكل كامل، ودون تدخل بشؤونها الدينية، ونظّم الأمر ضمن الدستور والقوانين، واستفاد المشرّع القانوني في البلاد من مختلف الأديان بتعدّد مذاهبها لتنظيم المجتمع التابع لها (الأحوال الشخصية)، وتعامل مع الإسلام كمكمّل للعروبة، وغير متعارض معها (قول ميشيل عفلق: طلب العرب السماء فملكوا الأرض، فلما اقتصروا على طلب الأرض، أضاعوها والسماء معاً، لا يسيطر العرب على حياتهم حتى يؤمنوا بالخلود، ولا تعود إليهم ملكية أرضهم حتى يؤمنوا بالجنة من جديد" ــ 1946)، وقوله وهو المسيحي في ذكرى مولد الرسول العربي/نيسان 1943: (لقد كان محمد كل العرب، فليكن العرب اليوم محمداً)، وهذا يدل على أن العرب مسيحيين ومسلمين يعتبرون الإسلام ثقافة مشتركة، بغض النظر عن العبادات لكل منهم حسب كتابه السماوي، حيث قال عفلق أيضاً مؤكداً الصلة العضوية بين القومية والعروبة، وأن علاقة العروبة بالإسلام ليست كعلاقة أي دين بأي قومية، وأن "العروبة جسد روحه الإسلام". ومن يراجع ويتابع مسيرة البعث، يلحظ أنه تعامل بإيجابية مع مختلف الطوائف الدينية الموجودة في سورية والوطن العربي، فأبرز مؤسسيه وأمينه العام لفترة امتدّت لأكثر من عشرين عاماً (ميشيل عفلق ــ مسيحي)، ومن مؤسسيه كما ذكرنا: زكي الأرسوزي، ووهيب الغانم، ومنصور الأطرش، وشبلي العيسمي، وآخرين (من سورية)، ومن قياداته وبدون انقطاع ممثلين عن مختلف الطوائف والمذاهب الدينية لا بصفتهم ممثلين لطوائفهم ومذاهبهم وإنما بصفتهم بعثيين يؤمنون بالعروبة جامعة لأبناء الأمة العربية. من الأسماء البارزة من المسيحيين البعثيين أيضاً: جورج صدقني، وأميل شويري، والياس فرح، وفايز الناصر، وحبيب حداد، ووهيب طنوس، ونظمي فلوح، وفيروز موسى، وماري حداد ( من سورية)، عبد الله نعواس، وكمال ناصر، وفواز صياغ، ونشأت حمارنة، مجلي نصراوين (الأردن)، غسان صليبا، بولس بطرس، أسعد حداد، رلا سمراني، حكمت سمعان (من لبنان)، طارق عزيز (من العراق)، وصلوا إلى قيادات البعث العليا، وهناك كتّاب ومفكرون مسيحيون وكوادر شغلوا قيادات متوسطة في الأقطار العربية التي تواجد بها حزب البعث. فميشيل عفلق شغل ــ كما أشرنا ــ الأمين العام لحزب البعث منذ تأسيسه ولعام 1966، وله كتابات ومحاضرات كثيرة تعدّ رافداً أساسياً للتثقيف البعثي عن الوحدة والحرية والاشتراكية، والتكامل بين العروبة والإسلام. الياس فرح، سوري، من مفكري البعث، وشغل منصب عضو قيادة قومية، كما شغل كل من جورج صدقني وفواز صياغ ونشأت حمارنة عضوية القيادة القومية، ومن المسيحيين القوميين غير البعثيين جورج حبش، ونايف حواتمة. وعند وجود الحزب بالحكم كانت هناك مشاركة فعلية سياسية لكل البعثيين من مختلف الانتماءات الدينية، وما يتعلق بالتيارات الدينية المتمثلة برجال الدين باختلاف اجتهاداتهم وغير المرتبطين بتسييس الدين، تعاملت معهم بإيجابية، وسهّلت أمورهم. والبعث أثناء حكمه كان يعتمد تدريس مادة الديانة (إسلامية ومسيحية) في المدارس الحكومية، وسمح بوجود مدارس خاصة ملتزمة بالمناهج الحكومية، وتعنى بتوضيح الشريعة الإسلامية وأحكامها للملتزمين بها، ومدارس خاصة للمسيحيين، كما أوجد كلية للشريعة في الجامعات السورية، واعتبرت الأعياد الدينية للمسلمين والمسيحيين أعياداً رسمية، وسمحت لأتباع الطوائف الدينية القيام بالاحتفالات في مناسباتهم والاهتمام بها كالمناسبات الوطنية، وكان تركيز الحزب ولا يزال على الإخاء بين الطوائف الدينية والتعايش فيما بينها، في إطار قوانين الوطن، وتجدر الإشارة إلى وجود دائرة للإفتاء في القطر العربي السوري، بالنسبة للمسلمين، ووزارة الأوقاف التي تشرف على القضايا الدينية وتحترم المرجعيات الدينية للطوائف المسيحية التي تعنى بشؤون أتباعها. لم تشهد سورية عبر تاريخها صراعاً طائفياً إلا خلال الحكم العثماني والاستعمار الغربي فيما بعد الذي اتّبع سياسة (فرّق تسد) بين الأديان والطوائف، وقرّب بعض الطوائف منه، وأبعد طوائف أخرى، ومع ذلك فالكل شاركوا في محاربته، ومنذ الاستقلال يتم التعايش والتعاون والمشاركة في بناء الوطن من الجميع. ولا ينكر بروز أفراد من هذه الطائفة أو تلك، تظهر عليهم مظاهر تعصّب بدوافع شخصية أو نتيجة تراكم التخلف ورواسب الماضي والتأثّر بها، لكن هذه الحالات الشخصية لا تصمد أمام الشعور العام بوحدة أبناء الوطن، وتغليب الانتماء القومي والوطني. فتح حزب البعث بعد تسلم قائده الرئيس بشار الأسد السلطة حواراً واسعاً مع فعاليات المجتمع كافة: السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية، وبطبيعة الحال كان الإسلاميون من المعنيين بالحوار، فكل من يسير على نهج الإسلام بعيداً عن التسييس، كان معنياً بالحوار، ومن ابتعد عن الحوار هم المتطرفون الذين ينشرون فهماً للإسلام بعيداً عن قيمة وجوهره، ويستغلون الإسلام في سبيل الوصول للسلطة، ولو عن طريق القوة، نظراً لعدم إمكانية الوصول إليها من خلال الخيار الشعبي، مع ملاحظة أن الإسلاميين الذين يُطلق عليهم (المعتدلون) ليسوا بتوجّه واحد، وإنما بتوجّهات متباينة، سرعان ما تتصادم بعضها مع بعض، كما تتصادم مع التيارات الأخرى في المجتمع. لقد أجرى البعث ــ في مراحل متعددة ــ حوارات حتى مع (الإخوان المسلمين)، وحتى بعد أحداث ثمانينيات القرن العشرين، لكن تبيّن أن (الإخوان المسلمين) عندما يكونون خارج السلطة، يطرحون أنفسهم وكأنهم مستعدون للتعاون مع الآخرين، وبعد وصولهم للسلطة يستأثرون بها ويُقصون الآخرين، كما حصل في مصر عند انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر، فانقلب عليه الشعب.
3 ــ تطوير أفكار البعث في ظل التحديات الجديدة: اعتبر البعث في دستوره الذي لم يتغير منذ التأسيس، (كونه يركز على مبادئ عامة)، الوحدة والحرية والاشتراكية أهدافاً أساسية متكاملة ومترابطة بغض النظر أن تحقيقها قد يتم إفرادياً على خطوات وليس دفعة واحدة. فدستور حزب البعث العربي الاشتراكي حدد مبادئ بيّن من خلالها مفهومه للأمة العربية، والوطن العربي، والمواطن العربي، وسلطة الشعب العربي على أرضه، وحرية هذا الشعب وأسس التفاضل بين أبنائه إضافةً لنظرته للإنسانية، ودورها في بناء الحضارة، كما حدّد الدستور منهجية عمل الحزب باعتباره حزباً قومياً، اشتراكياً، شعبياً، ورسم سياسات الحزب في مختلف المجالات الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية في الدولة العربية الموحدة. فالوحدة بنظر البعث تجسيد للوجود القومي للأمة العربية، وفلسفة الوحدة نصّ عليها الدستور (العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها ولهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر: 1- الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر. 2- الأمة العربية وحدة ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائها عرضية زائفة تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي (المبدأ الأول). وتوضّحت رؤية البعث للوحدة في العديد من المحاضرات والأبحاث، وهي البديل لواقع التجزئة والتخلف والجهل والاستغلال الذي أراده المستعمرون الذين تتالوا على سورية وبلدان الوطن العربي، ورأى البعث أنه من خلال تحقيق الوحدة تستعيد الأمة العربية شخصيتها القومية ودورها وتأثيرها في المنطقة والعالم، أما تحقيقها فيتم على خطوات سواء بين دولتين أو بين عدة دول من الدول العربية القائمة. الخطوة الأولى من العمل الوحدوي حصلت بين سورية ومصر عام 1958، وجاءت نتيجة مدّ شعبي واسع في سورية، وبروز قيادة جمال عبد الناصر الذي ركّز على البعد العربي والسعي لتحقيقه، وللاتجاه التحرّري بين البلدين، لكنها وحدة فرضها الواقع تحت تأثير الضغط الجماهيري العاطفي دون دراسة معمّقة لكيفية ممارسة دولة الوحدة لصلاحياتها بين إقليمين توجد بين المواطنين فيهما تباينات اقتصادية واجتماعية، ولم تدم دولة الوحدة إلى نهاية عام 1961، وحصل الانفصال نتيجة التآمر الخارجي والممارسات الخاطئة للحكم في دولة الوحدة، وتغليب مصلحة قطر على آخر، ولأنها أخذت طابع الوحدة الاندماجية ذات الطابع المركزي الذي لم يراع الفروقات الاجتماعية والاقتصادية بين القطرين. نقدت قيادة البعث ممارسة التجربة الوحدوية وأدانت إسقاط الوحدة، وعملت على قيام وحدة اتحادية تراعي ظروف البلدين، ومنذ ذلك الوقت تطوّرت نظرة البعث للوحدة لكي تبقى ديمومتها، وتكون لها جاذبية لا بد من ارتكانها على شكل اتحاد بين دول عربية، وتراعي الآخرين في الحكم، وتحقيقها لا بد أن يأتي تدريجياً ضمن ظروف الواقع العربي الراهن، ويمكن أن تكون الخطوة المهيأة تعاون ووحدة اقتصادية وثقافية وتعاون سياسي يؤدي للتعاون المتطور بين كل القطاعات في الدول العربية. أما الحرية فهي شعار مقدس نصّ عليه دستور البعث، فالحرية تعنى أولاً تحرير الإنسان من كل ما يقيّد حريته الشخصية ويبرز دوره في بناء المجتمع وتطوره، ولا يمكن أن ينعم الفرد العربي بحريته كاملة غير مقيدة إلا في مجتمع عربي يتحرّر من الاستعمار والاستغلال والعبودية والاستبداد، ولذلك فتحرير الإنسان وتحرير المجتمع العربي مترابطان، وأي جانب يتم في هذا المجال لا يكون مكتملاً إلا مع تحقيق الجانب الآخر (الأمة العربية تختص بمزايا متجلية في نهضاتها المتعاقبة، وتتسم بخصب الحيوية والإبداع، وقابلية التجدد والانبعاث، ويتناسب انبعاثها دوماً مع نمو حرية الفرد ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية، لهذا فإن حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر: 1- حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها. 2- قيمة المواطنين تقدر ـ بعد منحهم فرصاً متكافئة ـ حسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر. (المبدأ الثاني). كما نص الدستور على أن الحزب يعمل على تعميم الروح الشعبية (حكم الشعب) وجعلها حقيقة حية في الحياة الفردية، ويسعى إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم، واختيار ممثليهم اختياراً صادقاً ويهيئ لهم بذلك حياة حرة ضمن نطاق القوانين (المادة 17)، ويوضع بملء الحرية تشريع موحد للدولة العربية منسجم مع روح العصر الحاضر وعلى ضوء تجارب الأمة العربية في ماضيها (المادة 18). وحول ثقافة المجتمع: نصّ الدستور على أن الدولة مسؤولة عن صيانة حرية القول والنشر والاجتماع والاحتجاج والصحافة، في حدود المصلحة القومية العربية العليا وتقديم كل الوسائل والإمكانيات التي تحقق هذه الحرية(المادة 41). أما الاشتراكية عند البعث فتنطلق من أن مبدأ أو مصطلح الاشتراكية واحد لكل من يعمل لتحقيق الاشتراكية في مجتمعه ويسعى لتحقيق مجتمع اشتراكي تسوده العدالة والمساواة، وينتفي فيه الاستغلال، وتضيق فيه الفوارق بين الطبقات. ولكن للاشتراكية مذاهب، فالماركسية نادت بإلغاء الملكية الخاصة وأعلنت ملكية المجتمع لوسائل الإنتاج ولكل الثروات بدون استثناء، ورغم وجود نظم اشتراكية استناداً للماركسية وأهمها في الاتحاد السوفييتي، ورغم ما حققت للإنسان في مجتمعها من مكتسبات وحياة مستقرة، وخلقت مجتمعاً قوياً له دور وتأثير، إلا أنها لم تصمد، لأنها لم تعط اعتباراً لحرية الإنسان ونزعته للتملّك، وانهار الاتحاد السوفييتي والأنظمة المماثلة في دول أخرى، لأنها ألغت الملكية الخاصة، ولم تمارس الدور اللازم لتحرير الإنسان كفرد، هذا من جهة ومن جهة أخرى تآمر النظام الرأسمالي العالمي على الاتحاد السوفييتي وعلى الاشتراكية بشكل كبير. والنموذج الثاني للاشتراكية هو الاشتراكية الإصلاحية التي سادت في دول عدّة في الغرب وغيره، وجاءت بناء على نشاط أحزاب اختارت هذا النوع، ووصلت للحكم ضمن انتخابات شعبية، ووضعت برامج مرحلية مستندة إلى إصلاحات تلبّي حاجات الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وليس لهذه الاشتراكية نظرية محددة وأسس ثابتة، وإنما تركز على خطوات لتأمين نوع من العدالة الاجتماعية وتحقيق توازن بين مصالح الطبقات في المجتمع، وتقرُّ بالملكية الخاصة والفردية وتنظّمها، وتركّز على طابع الاقتصاد الحكومي الذي يشكّل خليطاً بين الرأسمالي والاشتراكي. أما النموذج الثالث الذي أخذ به البعث، فهو النموذج الذي أُطلق عليه "الطريق العربي إلى الاشتراكية" الذي يركّز على إنهاء الاستغلال وتمايز الطبقات وتقليل الفوارق بينها، وبناء نظام اقتصادي اجتماعي لتحقيق العدالة والمساواة وصولاً للعدالة الاجتماعية ويركّز على حرية الفرد في بناء المجتمع الاشتراكي وعلى الملكية الخاصة غير المستّغلة وترك الثروات الأساسية في المجتمع ملكية عامة كالثروات النفطية وغيرها، واعتمد على دور الدولة في توجيه الاقتصاد بما يلبّي الأهداف المحدّدة، وكان تعامله مع دور القطاع الخاص محدوداً. فحزب البعث العربي الاشتراكي، اشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق إمكاناته وتفتّح عبقريته على أكمل وجه، فيضمن للأمة العربية نموّاً مطّرداً في إنتاجها المعنوي والمادّي وتآخياً وثيقاً بين أفرادها (المادة 4)، ويؤمن البعث بأن أهدافه الرئيسة في بعث القومية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال (المادّة 6). والاشتراكية في الواقع تتحقق من خلال خطوات في كل دولة قبل الوحدة، أو في ظل الوحدة بين دولتين أو أكثر، ولا يمكن تحقيقها دفعة واحدة، والتنمية أساس للسير في خطوات اشتراكية ناجحة، فمن دون تنمية لا يمكن التغلب على الفقر وبناء القاعدة للانطلاق منها لتحقيق العدالة، ويدخل الاقتصاد الموجّه الذي تمارسه الدولة كأحد الخطوات في طريق الوصول للعدالة والمساواة، وقد مارس حكم البعث في سورية هذا الاقتصاد الموجه، ولكن بقي عاجزاً عن إحداث تنمية اقتصادية شاملة لضيق الإمكانات والموارد التي تمتلكها سورية، ومع ذلك حقّق خطوات رائدة في هذا المجال. وتبيّن أخيراً أنه لا بدّ من الاستفادة من دور الدولة ودور القطاع الخاص في مرحلة التنمية وإيجاد نوع من التوازن والتنافس الإيجابي بما يخدم برامج التنمية. أما سيادة الأفكار اليسارية في كل أنحاء العالم فهو أمر طبيعي مرتبط بالقصور الذي يشهده العالم والذي بلغ مرحلة سيادة الرأسمالية، وسيطرتها على منافذ الحياة، وبدأت تبرز سلبياتها في سيادة طبقة قليلة تملك أكثر الثروات، بينما الأكثرية الساحقة تعاني من الظلم والقهر والاستغلال، وهذه الأكثرية لن تقبل إلى ما لانهاية أن تبقى على وضعها الراهن، فهي تتحرك وحركتها تتعاظم في كل المجتمعات من أجل التغيير لمصلحتها، وهذا لا يتم ما لم يسد نظام بديل للنظام الرأسمالي، وهذا لا يقضي بالضرورة أن تعود الماركسية، وإنما يقضي بوصول أنظمة تلبّي مصلحة أكثرية الشعب في هذا البلد أو ذاك، وتراعي المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة بشكل نسبي، وليس من الضرورة أن يكون ما يتحقق موحداً بين كل الدول، وإنما يختلف بين دولة وأخرى طبقاً لاختلاف الظروف.
خاتمة: في الختام، لا بدّ من القول: إن الشعور بالانتماء القومي الواحد، والطموح لبناء دولة قومية حديثة قادرة على دفع العرب في ركب الحضارة، هدّد مصالح الدول الامبريالية الطامعة في السيطرة على موارد الوطن العربي ومصادرة إرادة التحرير والوحدة والكرامة لشعبه، فأخذت تعمل لتفتيت الوطن العربي، وإقامة جدران التجزئة لتفصل بين أقاليمه وأجزائه، لا بل بين أجزاء الإقليم الواحد ومكوناته، وقامت بتشجيع الفكرة الصهيونية لتقيم حاجزاً بشرياً غريباً ومعادياً في فلسطين يفصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه، كما عملت على إثارة النعرات الطائفية والإقليمية بوسائل شتى منها فكرة الدويلات الطائفية ونشر الانطباع بأن المنطقة العربية ليست سوى فسيفساء من قوميات وديانات غير متجانسة، وبالتالي نفي وجود الأمة العربية. واليوم تشهد العديد من الأقطار العربية انقسامات داخلية وصراعات حادة، وتغوّل الإرهاب التكفيري، مما يثير مخاوف حقيقية على كيان الدولة القومية العربية، ومخاطر تتهدّد الأمن القومي العربي لمصلحة مخططات التقسيم والتفتيت التي تسعى إلى تنفيذها الصهيونية العالمية وقوى الغرب بالتعاون مع بعض الأنظمة العربية والإقليمية العميلة ومرتزقة إرهابيين يعملون أدوات لتنفيذ تلك المخططات والمشروعات الخطيرة، عبر بث بذور الفتنة والفرقة والطائفية، وخلق حالات اقتتال داخلي بين أبناء البلد الواحد، وتفشي ظاهرة الإرهاب العابر للحدود.. لكن السؤال المطروح هو: كيف نواجه هذا الإرهاب التكفيري؟ وما المطلوب من الأقطار العربية والأحزاب والحركات السياسية الوطنية والقومية، ومؤسسات المجتمع العربي ونقاباته ومنظماته الجماهيرية؟ وما السبيل للمحافظة على ثوابت الأمة وحماية أمنها من مخاطر تلك التنظيمات الإرهابية؟ بدهي، أن تكون الإجابة هي: بتكاتف الجهود، والتعاون والتنسيق، بين مختلف الجهات في البلدان العربية، وعلى الأصعدة كلها، والوقوف صفاً واحداً في وجه الإرهاب والمجموعات المتطرفة، والعمل على تأسيس منظومة قومية عربية موحدة تتصدى للإرهاب التكفيري، وقطع الطريق أمام محاولات تنفيذ المشروعات الهادفة إلى تفتيت العرب والمسلمين، ودرء خطره، وإعداد برامج عمل، لرفع مستوى الوعي لدى أبناء الأمة بمخاطر الفكر الإرهابي التكفيري، وأضراره على المجتمع العربي والإسلامي، كمحاربة الجهل وزيادة التفقّه في الدين ونشر العلم الصحيح بين أفراد المجتمع، وتصدّي مناهج التعليم في الوطن العربي والعالم الإسلامي عامة، لمشكلة التطرّف بشكل علمي، والتركيز على تناول قضايا ومسائل هامة مثل سماحة الإسلام ويسره ووسطيته وحقوق الولاة، وحقوق الوطن والمواطن، وحقوق الأقليات، وحقوق مختلف الطوائف والقوميات والإثنيات والمذاهب في المجتمع، وحرمة دماء أبناء الأمة من مختلف الأديان وحرمة أعراضهم وأموالهم.. المطلوب العمل على بناء مستقبل مشرق للأمة، تنتفي فيه مظاهر الحقد والكراهية والعنف والتسلط والفوضى، وتنبعث منه إشراقات المحبة والوئام والسلام والتوحّد والأمن والاستقرار، تلك الإشراقات التي تستمد أصالتها من الحضارة العربية الإسلامية التي أنتجت علماً ومعرفة ومنفعة لمجتمعات العالم بأسره. ولا بدّ أن يلتقي مع هذه التوجّهات توقّف القوى التي تريد السيطرة على المنطقة وثرواتها عن مواصلة سعيها المستمر في فرض تسيّدها وتحكّمها بمقدرات المنطقة والتعامل مع دولها على أساس المصلحة المتبادلة، وما فيه خير التطوّر والتقدّم للشعوب كلها. |